• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أسواق العبودية تفتح أبوابها بإدارة جديدة

د. نضير الخزرجي

أسواق العبودية تفتح أبوابها بإدارة جديدة

يستطيع الإنسان أن يحبس نفسه في داره لأيّام وأشهر بل وسنين دون أن يخرج من باب الدار، يشغل نفسه بما هو مولع به، وليست هذه من الأُمور المستحيلة، فعدد غير قليل من مشاهير العلماء مارسوا هذا الدور دون أن يشعروا بأدنى تعب أو نصب، بل يجدون في الوحدة منتهى النشوة والروعة في إنجاز ما هم عليه، ولكن لا يتحمّل مثل هؤلاء أن تفرض عليهم الإقامة فرضا، لأنّهم كما ارتضوا لأنفُسهم البقاء في مكان واحد لفترة طويلة وبرغبتهم وإرادتهم يرفضون البقاء ولو في بيوتهم تحت الإقامة الجبرية لأنّها خلاف إرادتهم، وهذه هي قيمة الحرّية فالبقاء في دائرة محدودة مع الإرادة الذاتية هي حرّية في أعلى رُتبها والبقاء في الدائرة نفسها بالضد من الإرادة هي العبودية الأرضية في منتهى درجاتها.

في الحالتين، فإنّ الشخصية واحدة والمكان (البيت) واحد، لكن الاختلاف وقع في الإرادة بين أن تكون في مقام الفاعلية أو أن تكون تحت وطأة المفعولية، وليس الفاعل كالمفعول، فالأوّل مرفوع القامة والحركة ترفع معها رأس صاحبها، والثاني مغلوب الإرادة والحركة تنصب صاحبها على أعواد العبودية إن أصابته بأداة النصب وأخذته بداء الغصب.

ولا تقتصر الإرادة الفاعلة وضدها الإرادة المسلوبة على ذوات الروح العاقلة، وإنّما هي فطرة أودعها الله في مخلوقاته، وهي ديدن الطبيعة فيما نراه وما لا نراه من الكائنات، فكلّ ينحو باتجاه الحرّية الذاتية ورفض العبودية القسرية، ولأنّها أمر فطري يدرك معناها العالم والمتعلِّم والجاهل ولكن بدرجات فكلّما ازداد المرء علماً أمكنه الوقوف على حقيقة الحرّية والعبودية وتلمس جزئياتها، ومَن يقع تحت سنابك خيلها فهو أقدر على فهم معنى الحرّية إن امتلك الإرادة والحافز وإن كان غير متعلِّم، وحيث لا يعرف المرء قيمة البصر إلّا حينما يفقده، ولا قيمة السمع إلّا حين يفقده، فإنّ المرء لا يعرف حقيقة الحرّية إلّا حينما يقع في شباك العبودية وتجري عليه أحكامها، وإذا فقدها يعمل ما أمكنه على الخروج من عنق زجاجتها إلى فضاء الحرّية الرحب وتنفس عبير التحرير من جديد.

من هنا فإنّ الفقه الإسلامي حينما يعالج مسألة العبودية، فإنّه يطلق مفهوم (العتق) على مَن أخرج نفسه من دائرتها، ولهذه الكلمة مداليلها الوضاءة يتابعها الفقيه آية الله الشيخ محمّد صادق الكرباسي في كراس «شريعة التحرير» الصادر حديثاً (2019م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 56 صفحة، في 120 مسألة شرعية مع 67 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري الذي صدَّر للكراس بمقدّمة سبقتها مقدّمة الناشر وأعقبها تمهيد الكرباسي.

الرقبة والتحرير

للإنسان أن يسبح في فضاءات اللغة العربية، فمعانيها عرضها كعرض سماوات المفردات واللغة، تستوعب المفردة الواحدة العشرات بل المئات من المعاني، والرقبة من جسم الإنسان واحدة من تلك المفردات التي تستوعب كلّ جزئيات الفرد، فهي وإن كانت مربط الرأس بالجسد، لكنّها تمثّل نهر الحياة ومركز الإرادة ومبلغ شأن الإنسان، وبتعبير الفقيه الكرباسي في التمهيد: «جرت أدبيات العرب منذ القِدم على أنّ الرقبة تعني ما فيها حياة الإنسان من جهة، وفيها كرامته من جهة أُخرى، ومن هنا إذا قال الحاكم: اضرب عنق فلان، أراد قتله، فإزهاق الروح كان بضرب الرقبة».

فالرقبة وإن كانت جزءاً من بدن الإنسان ولكنّها بالكناية والمجاز لها أن تمثّل الحياة كلّها من خير أو شرّ بل وكينونة المرء بقدِّه وقديده، ولذلك فإنّ القرآن الكريم أشار إلى الرقبة لبيان مصير الإنسان يوم الحشر أهو من أهل الجنّة أم من أهل النار، وذلك في قوله تعالى: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً) (الإسراء/ 13).

ولأنّ الرقبة دالة على الحياة، فإنّ العملية الحيوية لإخراج المرء من دائرة العبودية إلى دائرة الحرّية يطلق عليها عتق رقبة، ولهذا كما يضيف الشيخ الكرباسي في تعريف العتق أنّها: «الحرّية إذا قُرئت مكسورة العين، وتعني التحرير إذا قُرئت مفتوحة العين، والفقهاء لا يبتعدون عن المعنى اللغوي بل أرادوا بالعتق الخروج من الرق، فالعِتق هو المملوك المُحرَّر، رجلاً كان أو امرأة، وقد اصطلح عليه القرآن بالتحرير».

وفي موقع آخر يعبر القرآن عن العتق بـ«الفك»، في قوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ) (البلد/ 12- 13)، وقد تواترت الأحاديث أنّ مَن أعتق رقبة في سبيل الله أعتقه الله من نار جهنم، وأدخله جنّة الخلد، من هنا يتبيّن عظيم الرقبة وأنّها ليست في قبال الحياة الدُّنيا فحسب بل الحياة الآخرة وخلودها وسعادتها، وفي الحديث الشريف: «أيّما مُسلِمٍ أعتقَ رجلاً مُسلِماً، فإنّ اللهَ جاعلٌ وَفاءَ كلِّ عَظمٍ من عظامِهِ، عظماً من عظامِ مُحَرّرِهِ من النار؛ وأيّما امرأةٍ مُسلِمةٍ أعتقتِ امرأةً مُسلِمةً، فإنّ اللهَ جاعلٌ وَفاءَ كلِّ عظمٍ من عظامِها، عظماً من عظامِ مُحَرّرِها من النار»، وفي حديث نبوي شريف آخر: «إنّ مَن أعتق مؤمناً أعتق الله العزيز الجبّار بكلّ عضو منه عضواً له من النار».

في الواقع أنّ تعظيم عتق الرقبة ووضعها في خانة الحياة وما يعادلها من حياة أُخروية خالدة، تكشف في الوقت نفسه عن عظيم الحرّية وجليل خطرها ووقعها في حياة الإنسان، ومَن يفقدها لطارئ عرضي أو مستديم فهو حيّ في عداد الأموات، وندرك أهميّتها بلحاظ ما فرضه الإسلام على القتل الخطأ من وجوب تحرير رقبة عبد مُسلِم، إن وجد مثل هذا الظرف مثلما كان عليه الوضع في العهد الأوّل بما فرضته قوانين الحرب آنذاك، فالتحرير في قوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) (النِّساء/ 92)، هو نقلة نوعية من عالم العبودية الطارئ إلى عالم الحرّية الثابت، وهو كما يؤكد الفقيه الكرباسي: «إنّ التحرير يعادل إحياءً للإنسان، فإذا قتل شخص تم إحياء شخص آخر مكانه بالتحرير»، وقد عبّر القرآن أحسن تعبير عن الحياة والموت في عتق الرقبة أو كسرها في قوله تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة/ 32)، فقتل النفس المُحرمة هو قتل للبشرية وإحياؤها حياتها، وكلّما أمعنا النظر في حقيقة العتق يزيدنا إيماناً بأهميّة الحرّية وأنّها حياة الإنسانية وسعادتها في الدارين، وأنّ العبودية هي حالة طارئة على الإنسان فرضتها تداعيات الحرب وقوانينها، عمل الإسلام على التخلُّص منها بطُرُق كثيرة لأنّه دين الحرّية، ولهذا كما يؤكِّد الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري في تعليقه: «عُدَّ العتق والتحرير من أحبّ الأعمال في الشريعة الإسلامية الغراء ومن المستحبات المؤكَّدة ليصبح المجتمع الإنساني على صعيد السعادة والرفاهية ولا يكون الاستعلاء لأحد على الآخر، بل تحكم المساوات الوجودية والحقيقة بين أبناء البشرية بشكل عام».

الإنسان أوّلاً

مَن يطالع كُتُب الفقه والحديث القديمة، سيجد في كلّ منها باباً لبيان أحكام الحرب والجهاد والتعامل مع الأسرى والسبايا وعموم العبيد، بلحاظ أنّ مسألة العبودية إنّما تتحقّق مع وقوع الحرب وسقوط الرجال أسرى والأطفال والنِّساء سبايا، ولكن كُتُب الفقه من مدّة طويلة وبخاصّة لدى المدرسة الإمامية تكاد تخلو من مناقشة أحكام الحرب والعبيد، لإيمانهم بأنّ الحرب الابتدائية لا يجوز اندلاعها مع غيبة الإمام المهدي المنتظر (ع)، والحروب الدفاعية لها أحكامها واشتراطاتها.

أمّا لماذا يذهب الفقهاء إلى بيان أحكام الرِّق ومسبباته وحيثياته والسُّبُل الكفيلة للتخلُّص منه باعتبار أنّ الحرّية أصيلة في حياة الإنسان والعبودية دخيلة ترتفع بارتفاع المسببات؟

خلاصة الإجابة يوضحها الفقيه الكرباسي في التمهيد حيث: «اختار الإسلام كأفضل الطُّرُق لاستيعاب الأسرى وما هو مترتب على اندلاع الحروب وشفّعها بمسألة التحرير بكلِّ ما أُوتي من قوّة»، هذا من جهة: «ومن جهة ثانية أنّ الحكم الإسلامي لابدّ من بيانه لتتضح صورة الإسلام الناصع وترتفع الكثير من الشبهات التي ألقاها الأعداء وبالأخص الغرب الذي كان إلى قبل أقل من قرن يستعبد الناس من دون حرب»، فضلاً عن هذين الاعتبارين: «فإنّ الحرب الدفاعية لم تنتهِ إذ إنّها واجبة على كلّ المسلمين ولا حاجة في شرعيتها الأوّلية إلى إذن حاكم الشرع، بل في كيفيتها ومبانيها وفي تفاصيلها وأساليبها تحتاج إلى إذن الحاكم بالإضافة إلى اندلاع حروب داخلية وخارجية إن شئنا أو أبينا» وغيرها من الأُمور تلجأ الفقيه إلى بيان أحكامها حتى تكون الأُمّة على بيِّنة منها.

ولأنّ حرّية الإنسان هي المفصل في مسألة العبودية الناشئة عن اندلاع شرارة الحرب بين المسلمين وغير المسلمن فإنّ الأسر اعتبره الإسلام أقصر الطُّرُق لحفظ حياة الإنسان على خلاف ما كانت تفعله المجتمعات المتناحرة بينها عندما يهاجم بعضها البعض الآخر فتحرق الأخضر واليابس وتقضي على حياة الذكور، وقد وفّر الإسلام طُرُقاً متعدّدة لتخليص العبد من قيد العبودية، وأضفى عليها سمة العبادة والقدسية حتى يتجاوز المرء بصورة أثيرية محبّبة مسألة العبودية والانتقال إلى دائرة العتق والتحرير، فكان تحرير العبد صورة من صُوَر التكفير عن الذنب أو ما يعبّر عنه بالكفارات.

ولأنّ العتق هو حرّية وتحرير فإنّ الإسلام أخذ في نظر الاعتبار قدرة المولى المُحَرَّر على العيش دون أن يجلس على قارعة الطريق يستعطي الناس، أو ينحرف عن جادة الصواب، ولهذا يرى الفقيه الكرباسي أنّه: «يُكره عتق مَن لا يقدر على الاكتساب، إلّا إذا تكفّل بقُوتِه، وفيه مزيد من الأجر»، كما: «يُكره عتق مَن يُحتمل انحرافه»، لأنّ الأصل كرامة الإنسان وسعادته في الدارين، والقدرة على الاكتساب من عدمه هي واحدة من المصاديق، وهنا يعلِّق الفقيه الغديري قائلاً: «بل ويمكن أن يكون عتقه راجحاً بملاحظة جهات أُخرى غير القدرة على الاكتساب وعدمه كالالتحاق بالعائلة أو العشيرة والاستفادة من الحرّيات الأُخرى الاجتماعية أو من نفس الحرّية الحاصلة له».

ولأنّ الإسلام يريد التخلُّص من مخلّفات الحرب، فإنّ تحقّق مجموعة من الأُمور أو واحدة منها تكون كافية ليأخذ الإنسان حرّيته عبداً كان أو أَمة، من تلك: «العمى، الجذام، الإقعاد، إسلام المملوك قبل المولى، إعفاء الإرث في المملوك، التمثيل، الاستيلاد، التدبير، والمكاتبة»، من هنا على سبيل المثال كما يضيف الكرباسي: «إذا أسلم العبد في دار الحرب والتحق بدار الإسلام قبل أن يسلم مولاه فإنّه ينعتق بمجرد إسلامه»، وكذا: «إذا انحصر وارث الميت فيمن هو مملوك فإنّه بمجرد موت مورثه ينعتق»، وكذا: «إذا مُثِّل بالمملوك بمعنى قطعت إحدى أطرافه فإنّه ينعتق بمجرد التمثيل»، كما: «إذا جُنَّ المملوك انعتق»، أمّا بخصوص التدبير والاستيلاد والمكاتبة فهي توجب العتق، من هنا فإنّ: «التدبير: هو الوصية بعتقه» بعد موت المولى، أمّا: «المكاتبة: هو أن يعقد المولى بينه وبين المملوك في أن يعمل العبد ويدفع ثمنه للمالك فينعتق بمقدار ما يدفعه»، وأمّا: «الاستيلاد: هو أن يكون للأُمّة مولوداً حرّاً فإنّها تنعتق بمجرد موت المولى لأنّها تصبح من تركة ولدها».

ربّما يجد البعض صعوبة في فهم هذه المسائل وهضمها ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين الميلادي، ولكن الوقوف عليها يقدّم لنا صورة غير مشوشة عن بديل القتل الذي أوجده الإسلام بحسابات الحروب السابقة، وما يدريك لعلّ قوانين الحروب السابقة تعود من جديد وإن بصُوَر مختلفة، بل ويعتقد الفقيه الكرباسي في بيان حيثيات كتابة (شريعة التحرير): «إنّ الظروف المستقبلية غير واضحة إذ ربّما تتغير القوانين الدولية وتعود العبودية إلى الواجهة من جديد كنتائج للحروب»، وهو أمر غير مُستبعد ألبتة، وما حصل في نهاية القرن العشرين في بلدان البلقان وفي أفريقيا من حروب طحنت أرواح الملايين من البشر وموت الأسرى جوعاً إشارة دامغة بأنّ عصر العبودية له قابلية العودة، وإن كان اليوم قد عاد بلباس جديد ظاهره التحرير وباطنه الاستعباد وسرقة ثروات الشعوب وإسقاط الحكومات التي لا تتماشى مع سياسات القوى العظمى.

ارسال التعليق

Top